سورة البقرة - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} استئنافٌ تعليلي لما سبق الحكم، وبيانٌ لما يقتضيه، أو بيان وتأكيد له، والمرادُ بالقلب محلُّ القوة العاقلة من الفؤاد، والختم على الشيء الاستيثاقُ منه بضرب الخاتم عليه صيانةً له، أو لما فيه من التعرض له كما في البيت الفارغ والكيس المملوء، والأولُ هو الأنسب بالمقام، إذ ليس المراد به صيانةَ ما في قلوبهم، بل إحداثَ حالةٍ تجعلها بسبب تماديهم في الغي وانهماكِهم في التقليد، وإعراضِهم عن منهاج النظر الصحيح، بحيث لا يؤثر فيها الإنذار، ولا ينفُذُ فيها الحقُّ أصلاً، إما على طريقة الاستعارة التبعية، بأن يُشبّه ذلك بضرب الخاتم على نحو أبوابِ المنازل الخالية المبنية للسُكنى تشبيهَ معقولٍ بمحسوس بجامعٍ عقلي هو الاشتمالُ على منع القابل عما من شأنه وحقه أن يقبَلَه، ويستعار له الختمُ ثم يشتق منه صيغةُ الماضي، وإما على طريقة التمثيل بأن يُشبه الهيئةُ المنتزعةُ من قلوبهم وقد فُعل بها ما فعل من إحداث تلك الحالة المانعة من أن يصل إليها ما خلقت هي لأجله من الأمور الدينية النافعة، وحيل بينها وبينه بالمرة بهيئةٍ منتزعةٍ من محالَ مُعدةٍ لحلول ما يَحُلُّها حُلولاً مستتبعاً لمصالحَ مُهمة وقد مَنَع من ذلك بالختم عليها وحيل بينها وبين ما أعدت لأجله بالكلية، ثم يُستعار لها ما يدل على الهيئة المشبَّهِ بها فيكون كلٌّ من طرفي التشبيه مركباً من أمور عدةٍ قد اقتُصر من جانب المشبَّهِ به على ما عليه يدور الأمرُ في تصوير تلك الهيئةِ وانتزاعِها وهو الختم، والباقي منويٌّ مرادٌ قصداً بألفاظٍ متخيَّلة بها يتحقق التركيب، وتلك الألفاظُ وإن كان لها مدخَلٌ في تحقيق وجهِ الشبه الذي هو أمرٌ عقلي منتزَع منها وهو امتناعُ الانتفاعِ بما أُعِدَّ له بسبب مانعٍ قوي، ليس في شيء منها على الانفراد تجوز باعتبار هذا المجاز، بل هي باقية على حالها من كونها حقيقةً أو مجازاً أو كنايةً، وإنما التجوُّزُ في المجموع، وحيث كان معنى المجموع مجموعَ معاني تلك الألفاظ التي ليس فيها التجوزُ المعهود، ولم تكن الهيئةُ المنتزعةُ منها مدلولاً وضعياً لها ليكون ما دلَّ على الهيئة المشبه بها عند استعمالِه في الهيئة المشبهة مستعملاً في غير ما وضع له، فيندرجَ تحت الاستعارةِ التي هي قسمٌ من المجاز اللغوي، الذي هو عبارةٌ عن الكلمة المستعملة في غير ما وضع له، ذهب قدماء المحققين كالشيخ عبدِ القاهر وأضرابِه إلى جعل التمثيلِ قسماً برأسه، ومن رام تقليلَ الأقسام عَدَّ تلك الهيئةَ المشبَّهَ بها من قبيل المدلولات الوضعية، وجعل الكلامَ المفيد لها عند استعمالِه فيما يُشبَّه بها من هيئة أخرى منتزعةٍ من أمور أُخَرَ من قبيل الاستعارة، وسماه استعارة تمثيلية، وإسنادُ إحداث تلك الحالة في قلوبهم إلى الله تعالى لاستناد جميعِ الحوادث عندنا من حيث الخلقُ إليه سبحانه وتعالى، وورودُ الآية الكريمة ناعيةً عليهم سوءَ صنيعهم ووخامةَ عاقبتِهم لكون أفعالِهم من حيث الكسبُ مستندةً إليهم، فإن خلْقَها منه سبحانه ليس بطريق الجبر بل بطريق الترتيبِ على ما اقترفوه من القبائح كما يُعرِبُ عنه قوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} ونحو ذلك.
وأما المعتزلةُ فقد سلكوا مسلكَ التأويل، وذكروا في ذلك عدةً من الأقاويل منها أن القومَ لمّا أعرضوا عن الحق وتمكنَ ذلك في قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم شُبّه بالوصف الخَلْقي المجبول عليه، ومنها أن المراد به تمثيلُ قلوبِهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خاليةً عن الفِطَن، أو بقلوب قد ختم الله تعالى عليها كما في: سال به الوادي إذا هلك، وطارت به العنقاءُ إذا طالت غَيْبته، ومنها أن ذلك فعلُ الشيطان أو الكافر، وإسنادُه إليه تعالى باعتبار كونه بإقداره تعالى وتمكينه، ومنها أن أعراقَهم لما رسَخت في الكفر واستحكمت بحيث لم يبق إلى تحصل إيمانهم طريقٌ سوى الإلجاءِ والقسرِ، ثم لم يَفعَلْ ذلك محافظةً على حكمة التكليف عُبّر عن ذلك بالختم، لأنه سدٌّ لطريق إيمانهم بالكلية، وفيه إشعارٌ بترامي أمرهم في الغي والعِناد، وتناهي انهماكِهم في الشر والفساد، ومنها أن ذلك حكايةٌ لما كانت الكفرة يقولونه مثل قولهم: {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} تهكّماً بهم، ومنها أن ذلك في الآخرة، وإنما أُخبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه ويعضُده قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا} ومنها أن المراد بالختم وسْمُ قلوبهم بسِمَةٍ يعرِفها الملائكة فيبغضونهم وينفِرون عنهم.
{وعلى سَمْعِهِمْ} عطفٌ على ما قبله داخل في حكم الختم لقوله عز وجل: {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} وللوفاق على الوقف عليه لا على قلوبهم، ولاشتراكهما في الإدراك من جميع الجوانب، وإعادةُ الجارّ للتأكيد والإشعار بتغايُر الختمَيْن، وتقديمُ ختمِ قلوبهم للإيذان بأنها الأصلُ في عدم الإيمان، وللإشعار بأن ختمَها ليس بطريق التبعيةِ بختم سمعِهم، بناءً على أنه طريقٌ إليها، فالختمُ عليه ختمٌ عليها، بل هي مختومةٌ بختم على حِدَة، لو فُرض عدمُ الختم على سمعهم فهو باقٍ على حاله حسبما يُفصح عنه قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} والسمعُ إدراكُ القوة السامعة، وقد يُطلق عليها وعلى العضو الحامل لها وهو المراد ههنا، إذ هو المختومُ عليه أصالةً، وتقديمُ حاله على حال أبصارِهم للاشتراك بينه وبين قلوبهم في تلك الحال، أو لأن جنايتَهم من حيث السمعُ الذي به يتلقى الأحكامُ الشرعية، وبه يَتحققُ الإنذارُ أعظمَ منها من حيث البصرُ الذي به يشاهَد الأحوالُ الدالة على التوحيد، فبيانُها أحقُّ بالتقديم، وأنسبُ بالمقام.
قالوا: السمعُ أفضلُ من البصر، لأنه عز وعلا حيث ذكَرهما قدم السمعَ على البصر، ولأن السمع شرطُ النبوة ولذلك ما بعث الله رسولاً أصم، ولأن السمع وسيلة إلى استكمال العقلِ بالمعارف التي تُتلقف من أصحابها، وتوحيدُه للأمن عن اللَّبس، واعتبارِ الأصل، أو لتقدير المضاف، أي وعلى حواسِّ سمعهم، والكلامُ في إيقاع الختم على ذلك كما مر من قبل {وعلى أبصارهم غشاوة} الأبصار جمع بصر، والكلام فيه كما سمعته في السمع، والغِشاوةُ فِعالة من التغشية أي التغطية، بُنيت لما يشتمل على الشيء كالعِصابة والعِمامة، وتنكيرُها للتفخيم والتهويل، وهي على رأي سيبويه مبتدأ خبرُه الظرفُ المقدم، والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها، وإيثارُ الاسمية للإيذان بدوام مضمونها، فإن ما يُدرَك بالقوة الباصرة من الآيات المنصوبة في الآفاق والأنفسِ حيث كانت مستمرةً كان تعاميهم من ذلك أيضاً كذلك.
وأما الآياتُ التي تُتلقَّى بالقوة السامعة فلمّا كان وصولُها إليها حيناً فحيناً أوثر في بيان الختم عليها وعلى ما هي أحدُ طريقي معرفتِه، أعني القلبَ الجملةُ الفعلية، وعلى رأي الأخفش مرتفعٌ على الفاعلية مما تعلق به الجار، وقرئ بالنصب على تقدير فعلٍ ناصب، أي وجَعَل على أبصارهم غشاوة، وقيل: على حذف الجار وإيصال الختم إليه، والمعنى وختم على أبصارهم بغشاوة، وقرئ بالضم والرفع وبالفتح والنصب، وهما لغتان فيها، و{غشاوة} بالكسر مرفوعةٌ وبالفتح مرفوعة ومنصوبة، وعشاوةٌ بالعين غير المعجمة والرفع {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} وعيد وبيان لما يستحقونه في الآخرة والعذاب كالنَكال بناءً ومعنى، يقال: أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه، ومنه الماءُ العذبُ لما أنه يقمَعُ العطش ويردَعه، ولذلك يسمى نُقاخاً، لأنه ينقَخُ العطشَ ويكسِرُه، وفرُاتاً لأنه يرفتُه على القلب ويكسره، ثم اتُسِع فيه فأطلق على كل ألمٍ فادح، وإن لم يكن عقاباً يُراد به ردْعُ الجاني عن المعاودة، وقيل: اشتقاقُه من التعذيب الذي هو إزالة العذاب، كالتقذية والتمريض. والعظيم نقيضُ الحقير، والكبير نقيضُ الصغير، فمن ضرورة كونِ الحقيرِ دونَ الصغير كونُ العظيم فوق الكبير، ويستعملان في الجُثث والأحداث. تقول: رجل عظيم وكبير، تريد جثتَه أو خطرَه، ووصفُ العذاب به لتأكيد ما يفيده التنكيرُ من التفخيم والتهويل والمبالغة في ذلك.
والمعنى: أن على أبصارهم ضرباً من الغِشاوة خارجاً مما يتعارفه الناس، وهي غشاوة التعامي عن الآيات، ولهم من الآلام العظامِ نوعٌ عظيم لا يُبلغ كُنهُه ولا يدرك غايتُه، اللهم إنا نعوذ بك من ذلك كلِّه يا أرحم الراحمين.


{وَمِنَ الناس} شروع في بيان أن بعضَ من حُكيتْ أحوالُهم السالفة ليسوا بمقتصِرين على ما ذكر من محض الإصرارِ على الكفر والعناد، بل يضُمّون إليه فنوناً أُخَرَ من الشر والفساد، وتعديدٌ لجناياتهم الشنيعةِ المستتبعة لأحوال هائلةٍ عاجلة وآجلة، وأصلُ ناسٍ أُناسٌ، كما يشهد له إنسانٌ وأناسيُّ وإنسٌ، حُذفت همزته تخفيفاً كما قيل: لوقة في ألوقة، وعُوّض عنها حرفُ التعريف، ولذلك لا يُكاد يُجمع بينهما، وأما في قوله:
إن المنايا يطَّلِعْنَ على الأُناسِ الآمنينا ***
فشاذ، سموا بذلك لظهورهم وتعلُّقِ الإيناسِ بهم كما سُمّي الجنُ جناً لاجتنانهم. وذهب بعضُهم إلى أن أصلَه النَّوَسُ وهو الحركة، انقلبت واوه ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وبعضُهم إلى أنه مأخوذ من نِسيَ، نقلت لامه إلى موضع العين فصار نَيَساً، ثم قلبت ألفاً، سُمّوا بذلك لنسيانهم، ويُروى عن ابن عباس أنه قال: سُمي الإنسانُ إنساناً لأنه عُهد إليه فنِسي، واللام فيه إما للعهد، أو للجنس المقصور على المُصرّين حسبما ذكر في الموصول، كأنه قيل: ومنهم أو من أولئك، والعدولُ إلى الناس للإيذان بكثرتهم، كما ينبىء عنه التبعيضُ، ومحلُ الظرف الرفعُ على أنه مبتدأ باعتبار مضمونِه، أو نعتٌ لمبتدإٍ، كما في قوله عز وجل: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي وجمعٌ منا الخ، ومن في قوله تعالى: {مَن يِقُولُ} موصولة أو موصوفة، ومحلُها الرفعُ على الخبرية، والمعنى وبعضُ الناس، أو وبعضٌ من الناس الذي يقول، كقوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبى} الآية، أو فريق يقول، كقوله تعالى: {مّنَ المؤمنين رِجَالٌ} الخ، على أن يكون مناطُ الإفادةِ والمقصودُ بالأصالة اتصافُهم بما في حيز الصلة أو الصفة، وما يتعلق به من الصفات جميعاً، لا كونُهم ذواتِ أولئك المذكورين.
وأما جعلُ الظرف خبراً كما هو الشائعُ في موارد الاستعمال فيأباه جزالةُ المعنى، لأن كونَهم من الناس ظاهرٌ، فالإخبارُ به عارٍ عن الفائدة كما قيل، فإن مبناه توهمُ كونِ المرادِ بالناس الجنسَ مطلقاً، وكذا مدارُ الجواب عنه بأن الفائدةَ هو التنبيهُ على أن الصفاتِ المذكورةَ تنافي الإنسانية، فحقُّ من يتصفُ بها ألا يُعلمَ كونُه من الناس، فيُخبَرَ به ويُتعجَّبَ منه، وأنت خبير بأن الناسَ عبارة عن المعهودين، أو عن الجنس المقصور على المصرّين، وأياً ما كان فالفائدةُ ظاهرة، بل لأن خبريةَ الظرف تستدعي أن يكون اتصافُ هؤلاء بتلك الصفاتِ القبيحةِ المفصَّلة في ثلاثَ عشْرةَ آيةٍ عنواناً للموضوع مفروغاً عنه، غيرَ مقصودٍ بالذات، ويكونُ مناطَ الإفادة كونُهم من أولئك المذكورين، ولا ريب لأحدٍ في أنه يجب حملُ النظم الجليلِ على أجزلِ المعاني وأكملِها، وتوحيدُ الضمير في {يقول} باعتبار لفظةِ {مَن}، وجمعُه في قوله: {آمنا بالله وباليوم الأخر} وما بعده باعتبار معناها، والمرادُ باليوم الآخِرِ من وقت الحشرِ إلى ما لا يتناهى، أو إلى أن يدخُلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النار النارَ، إذ لا حدَّ وراءه، وتخصيصُهم للإيمان بهما بالذكر مع تكرير الباءِ لادعاء أنهم قد حازوا الإيمانَ من قُطريه، وأحاطوا به من طرفيه، وأنهم قد آمنوا بكلَ منهما على الأصالة والاستحكام، وقد دسوا تحته ما هم عليه من العقائد الفاسدة حيث لم يكن إيمانُهم بواحد منهما إيماناً في الحقيقة، إذ كانوا مشركين بالله بقولهم: {عَزِيزٌ ابن الله} وجاحدين باليوم الآخر بقولهم: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} ونحو ذلك، وحكايةُ عبارتهم لبيان كمالِ خبثهم ودعارتِهم، فإن ما قالوا لو صدر عنهم لا على وجه الخِداعِ والنفاقِ وعقيدتُهم عقيدتُهم لم يكن ذلك إيماناً، فكيف وهم يقولونه تمويهاً على المؤمنين واستهزاءً بهم {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} ردٌّ لما ادعَوْه ونفيٌ لما انتحلوه. وما حجازية، فإن جوازَ دخولِ الباء في خبرها لتأكيد النفي اتفاقيٌّ بخلاف التميمية، وإيثارُ الجملة الاسميةِ على الفعلية الموافقةِ لدعواهم المردودةِ للمبالغة في الرد بإفادة انتفاءِ الإيمانِ عنهم في جميع الأزمنة لا في الماضي فقط كما يفيده الفعلية. ولا يُتوهمَن أن الجملة الاسمية الإيجابية تفيد دوام الثبوت، فعند دخول النفي عليها يتعين الدلالة على نفي الدوام، فإنها بمعونة المقام تدل على دوام النفي قطعاً، كما أن المضارع الخاليَ عن حرف الامتناع يدل على استمرار الوجود وعند دخول حرف الامتناع عليه يدل على استمرار الامتناع، لا على امتناع الاستمرار، كما في قوله عز وجل: {وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} فإن عدم قضاءِ الأجل لاستمرار عدم التعجيل لا لعدم استمرارِ التعجيل، وإطلاقُ الإيمان عما قيدوه به للإيذان بأنهم ليسوا من جنس الإيمان في شيء أصلاً، فضلاً عن الإيمان بما ذكروا، وقد جُوز أن يكون المراد ذلك، ويكون الإطلاق للظهور، ومدلولُ الآية الكريمة أن من أظهر الإيمان، واعتقادُه بخلافه، لا يكون مؤمناً، فلا حجة فيها على الكرامية القائلين بأن من تفوّه بكلمتي الشهادة فارغَ القلب عما يوافقه أو ينافيه مؤمنٌ.


{يخادعون الله والذين ءامَنُوا} بيانٌ ليقولُ وتوضيحٌ لما هو غرضُهم مما يقولون، أو استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الذهن، كأنه قيل: ما لهم يقولون ذلك وهم غيرُ مؤمنين، فقيل: يخادعون الله الخ، أي يخدعون، وقد قرئ كذلك، وإيثارُ صيغة المفاعلةِ لإفادة المبالغةِ في الكيفية، فإن الفعل متى غولب فيه بولغ فيه قطعاً، أو في الكمية، كما في الممارسة والمزاولة، فإنهم كانوا مداومين على الخَدْع، والخِدْعُ أن يوهم صاحبَه خلاف ما يريد به من المكروه ليوقعَه فيه من حيث لا يحتسب، أو يوهمَه المساعدةَ على ما يريد هو به ليغترّ بذلك فينجُوَ منه بسهولة، من قولهم ضبٌّ خادع وخُدَع وهو الذي إذا أمرّ الحارسُ يده على باب جُحره يوهمه الإقبالَ عليه فيخرج من بابه الآخر، وكلا المعنيين مناسبٌ للمقام، فإنهم كانوا يريدون بما صنعوا أن يطّلعوا على أسرار المؤمنين فيذيعوها إلى المنابذين، وأن يدفعوا عن أنفسهم ما يصيب سائرَ الكفرة.
وأياً ما كان فنسبتُه إلى الله سبحانه إما على طريق الاستعارة والتمثيل، لإفادة كمال شناعةِ جنايتهم أي يعامِلون معاملة الخادعين، وإما على طريقة المجاز العقلي، بأن يُنسب إليه تعالى ما حقه أن يُنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إبانةً لمكانته عنده تعالى، كما ينبىء عنه قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وقوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} مع إفادة كمال الشناعةِ كما مر، وإما لمجرد التوطئةِ والتمهيد لما بعده من نِسبته إلى الذين آمنوا، والإيذانِ بقوةِ اختصاصِهم به تعالى كما في قوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ}، وقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} وإبقاءُ صيغة المخادعةِ على معناها الحقيقي بناءً على زعمهم الفاسد، وترجمةٌ عن اعتقادهم الباطل، كأنه قيل: يزعمون أنهم يخدعون الله والله يخدعهم، أو على جعلها استعارة تَبَعِيّة، أو تمثيلاً لما أن صورةَ صُنعِهم مع الله تعالى والمؤمنين وصنعِه تعالى معهم بإجراء أحكامِ الإسلام عليهم، وهم عنده أخبثُ الكفرة، وأهلُ الدَّرْك الأسفلِ من النار استدراجاً لهم، وامتثالُ الرسولِ عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأمر الله تعالى في ذلك مجازاةٌ لهم بمثل صنيعهم صورةَ صنيعِ المتخادعين كما قيل، مما لا يرتضيه الذوق السليم.
أما الأولُ فلأن المنافقين لو اعتقدوا أن الله تعالى يخدعُهم بمقابلة خَدْعِهم له لم يُتصَّور منهم التصدّي للخدْع، وأما الثاني فلأن مقتضى المقام إيرادُ حالهم خاصةً وتصويرُها بما يليق بها من الصورة المستهجَنة، وبيانُ أن غائلَها آيلةٌ إليهم من حيث لا يحتسبون، كما يُعرب عنه قوله عز وعلا: {وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ} فالتعرضُ لحال الجانب الآخر مما يُخِل بتوفية المقامِ حقَّه، وهو حالٌ من ضمير {يخادعون}، أي يفعلون والحالُ أنهم ما يُضرون بذلك إلا أنفسَهم، فإن دائرةَ فعلِهم مقصورةٌ عليهم، أو ما يخدعون حقيقةً إلا أنفسَهم، حيث يُغرونها بالأكاذيب فيُلْقُونها في مهاوي الردى، وقرئ {وما يخادعون} والمعنى هو المعنى، ومن حافظ على الصيغة فيما قبلُ قال: وما يعامِلون تلك المعاملةَ الشبيهةَ بمعاملة المخادِعين إلا أنفسَهم لأن ضررَها لا يحيق إلا بهم، أو ما يخادعون حقيقة إلا أنفسَهم حيث يُمنّوُنها الأباطيل، وهي أيضاً تغرُهم وتمنّيهم الأمانيَّ الفارغةَ، وقرئ {وما يُخَدِّعون} من التخديع {وما يخدعون} أي يختدعون، ويُخدَعون ويُخادَعون على البناء للمفعول، ونصبُ {أنفسَهم} بنزع الخافض، والنفسُ ذاتُ الشيء وحقيقتُه وقد يقال للروح لأن نفس الحيِّ به، وللقلب أيضاً لأنه محلُ الروح.
أو مُتعلَّقُه، وللدم أيضاً لأن قِوامَها به، وللماء أيضاً لشدة حاجتها إليه والمراد هنا هو المعنى الأول لأن المقصود بيانُ أن ضرر مخادعتهم راجعٌ إليهم لا يتخطاهم إلى غيرهم.
وقوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ} حال من ضمير ما يخدعون، أي يقتصرون على خِدْع أنفسِهم والحالُ أنهم ما يشعرون أي ما يُحسّون بذلك لتماديهم في الغَواية، وحذفُ المفعولِ إما لظهوره أو لعمومه، أي ما يشعرون بشيء أصلاً، جُعل لُحوقُ وبالِ ما صنعوا بهم في الظهور بمنزلة الأمر المحسوسِ الذي لا يخفى إلا على مَؤوفِ الحواس مختلِّ المشاعر.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8